مقالات و آراء

من إنجازات المخطط الأخضر: عشرون درهما للفلفل الأخضر والأحمر.

ذ.محمد البدوي

كالعادة فتحت هاتفي المحمول على وقع رنين رسالة وصلتني ، أتحسس صورة ورقة ، وصلتني من بيتي فيها ضروريات المطبخ لهذا اليوم .
ألقيت عليها نظرة عابرة سطحية ، ففرحت لأن محتواها لا يتجاوز سبع عناصر ، وغالبيتها من الخضروات.
قصدت سوق (المرينة) وهو من أفضل الأسواق ، هكذا كان يقال لي في بداية استقراري بمدينة القصر الكبير قبل مايزيد عن العشر سنوات ، وقد خبرت ما يتردد على ألسنة أهل هذه المدينة، فألفيت كلامهم صواب في صواب ، فكنت مثلا : إذا أردت أن أتبضع الطماطم أو البطاطس أو حتى البصل ، فثمنها في المرينة لا يتجاوز درهمين، بينما في باقي الأسواق المنتشرة في أرجاء المدينة ، فالفرق درهم في الكيلو ، وهذا كاف يومها في الزمن الغابر الجميل ، أن تقصد السوق ، فتشتري مثلا : ثلاثة كيلو من البطاطس بستة دراهم،
و ثلاثة كيلو من البصل بستة دراهم أيضا، وثلاثة كيلو من الطماطم بسبعة دراهم ونصف ، وكيلو من الفلفل الأخضر بأربعة دراهم، وكيلو من البادنجان فقط بدرهمين ونصف ، وكيلو من الجزر بدهمين، وكيلو من القرع الأخضر بأربعة دراهم، وكيلو من الخيار بثلاثة دراهم، وحزمة من اللفت بدرهم ونصف ، وحفنة من الحار تحتوي على ما يزيد عن العشر خروبات بدرهم واحد، وحزمتين من القزبر والمقدنوس بدرهمين، فتكون الحصيلة خمسة عشر كيلوغراما وزنا ، وما يقابله نقدا فخمسة وأربعون درهما، بقي لي في جيبي من الورقة النقدية الخضراء الفاقع لونها خمسة دراهم اشتريت بها خبزة كبيرة تفي بالغرض.
أما اليوم فالأمر مختلف بالمرة ، يكاد المرء يجن من هول ما يسمع ويرى ، أكاد أجزم أن هذه الأثمنة لا يصلح أن تكون إلا في بعض الأسواق الممتازة في القارة الشقراء، ولك أن تتخيل معي ثمن الفلفل، الذي لطالما كنت أشتريه وفي غير موسمه ، وفي حالة نقصانه من السوق بخمسة دراهم ، ها أنا اليوم وفي سوق ( المرينة)، أسأل عنه الخضار فيجيبني وبدون حياء: عشرون درهما!!!!
أعيد السؤال مرة ثانية وثالثة: كم هو سعر الفلفل الأخضر ؟
يجيب : وقد رفع من صوته، نعم ألفي فرنك ، يعني عشرون درهما.
قلت أسأله للمرة الأخيرة، لعل حرارة شمس بداية الربيع نالت منه ، ماذا تقول ياسيدي : كما سمعت وتسمع، ورفع صوته هذه المرة مزمجرا ، وكان فيما قبل يستعمل معي بعضا من اللباقة واللياقة في الكلام.
اسمع ياهاذا : هي عشرون درهما ، حتى ولو سألتني ثلاثمائة سؤالا وازدادوا تسعا.
نظرت في وجه هذا الخضار الهائج كما لم أنظر إليه أبدا من قبل،
وكانت بجانبي امرأة مسكينة تكثر من الحوقلة ، نظرة عينيها الهرمتين معذبة مستكينة كنظرة الكلب الذي يضربونه كثيرا ويطعمونه قليلا .
كل الناس يفرون من هذا الخضار كأن به جدام أو برص، أو كأنهم سمعوا عنه أنه مصاب بفيروس كورونا في بداية ظهور الوباء .
وليت عنه هاربا ولم أعقب ، هكذا ظهر لي جموعا من الناس يفعلون، اتخدت هذا البائع ظهريا وقصدت ثانيا وثالثا لعلي ألوي على شيء، لكن حسرتي زادت عندما سمعت أن الخمسون درهما تلك الخضراء التي كانت تكفيني الأسبوع من الخضر لا تقوى اليوم على شراء ثلاثة كيلو غرامات ونصف من البصل.
تسمرت في مكاني لا أبرحه ، أتفرس وجوها شاحبة لبعض الفقراء والمساكين ، الذين يتألمون في صمت ، أولائك الذين يحسبهم الناس أغنياء من التعفف، لا يسألون الناس إلحافا .
قلت : وقد أعياني التفكير ، ما إن خرج الناس من وباء الكوفيد، حتى تسلط عليهم وباء الزيادة في الأسعار .
وتذكرت أثرا ينسب لإبراهيم بن أدهم ” إن اللحم قد غلا فقال أرخصوه أي لا تشتروه”.
تاريخ ابن معين – الدوري – (ج 1 / ص 86)
وأيضا ما رواه مغيرة بن عطية عن رزين بن الاعرج مولى لآل العباس قال: “غلا علينا الزبيب بمكة فكتبنا إلى على بن أبى طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا فكتب أن أرخصوه بالتمر”.
التاريخ الكبير للبخاري- (ج 3 / ص 325).
وفي حديث عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أن عمر بن الخطاب أدرك جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم ، فقال : ما هذا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين قرمنا إلى اللحم ، فاشتريت بدرهم لحما ، فقال عمر : أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره أو ابن عمه ؟ أين تذهب عنكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [ الأحقاف : 20 ] .
قال ابن جريج ، وقتادة : بلغنا عن عمر أنه قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي .
ورحم الله الفاروق ثاني الخلفاء الراشدين المهديين، ورضي الله عنه وأرضاه كان يستبقي طيباته للآخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock