مقالات و آراء

خواطر على أغنية «عشقت الليل»

وضاح عبد الباري طاهر

لم أكد أنصرف البارحة من صلاة المغرب حتى سمعت الثنائي المبدع: عمر ياسين، وهاجر نعمان، وهما يغنيان «عشقت الليل»، للفنان الراحل طلال مداح -رحمه الله-، وهي من كلمات الأمير بدر بن عبد المحسن-، وكانت قد غنتها قبلهما الفنانة التونسية المجيدة المبدعة مروة قريعة بصوتها العذب الرقيق، فنجَّشا شُجوني، ودَرَّ الدمعُ من شُئوني، وطفقت أستمع لها وأتأمل محاسنها وجمال لحنها وفتنتها وسحرها، وكان مما استوقفني هذا البيت:

يا ليل الحُبِّ يا غالي * يا جامعنا وحِنِّا بعيدْ

فتذكرت قصيدة جحدر اللص الذي حبسه الحجاج، فقال في سجنه:

أليسَ اللهُ يعلمُ أن قلبي* يحبُّكَ أيها البرقُ اليماني

وأهوى أن أردَّ إليك طرفي* على عدواء من شُغُلٍ وشاني

ومما هاجني فازددتُ شوقًا* بكاءُ حمامتينِ تَجَاوبانِ

تجاوبتا بلحنٍ أعجميٍ* على غُصنينِ من غَرْبٍ وبانِ

فكان البان أن بانت سليمى* وفي الغرب اغترابٌ غير داني

أليس الليلُ يجمعُ أمَّ عمروٍ * وإيانا فذاكَ لنا تداني.

والبيت الأخير محل الشاهد. قال الوزير البكري في شرحه «سمط اللالي»: “هذا من أيسر ما يقنع به المشوق، ويتعلّق به المتتوِّق. ومثله قول رجل من بني تميم:

كلانا يرى الجوزاء يا علوَ إن بدت* ونجم الثريّا والمزارُ بعيدُ

وكيف بكم يا علو أهلاً ودونكم* لجاجٌ يغمِّصنَ السفِينَ وبِيدُ”.

ثم شرع البكري يذكر نظائر هذا المعنى المتوارد على لسان جماعة من الشعراء، أكتفي منها بهذا القدر.

أما طلب الشاعر من الليل أن يُحمِّل النسمة همسةً تمر فوق جيد محبوبه، فعجزٌ ظاهر، وتقاعسٌ قبيح، وتسليم على غير الضيف، يستحق اللوم عليه، وأن يقال له: عاشقٌ وكسلان؟!

وما كان ضره لو حَمَّلَ النسيم رسالته بنفسه، وأودعهُ أسرارَ صدره. فليس من شأن الليل أن يكون رسولاً؛ فما عليه إلا أن يجمع بين العشاق ويحجبهم، ويُرخي بأستاره عليهم، وإنما النسيم هو الذي يُسأل عن الأحباب، وَيحْمِل رسائلهم وأشواقهم وقبلاتهم إلى مَنْ يحبون؛ وهو معنى أكثر منه الشعراء حتى أذالوه؛ فمنها حمينية القاضي عبد الرحمن الآنسي:

عن ساكني صنعاء حديثكْ هاتْ وافوجَ النسيمْ

وقصيدة ابن سناء الملك أو العيدروس -على خلاف في ذلك-:

يا نسيم السحر هل مِنْ خبرْ* عن عُريبٍ بوادي المنحنى؟

وقول الشاعر التهامي:

ويا نسيمًا سرى بلغ تحيتنا * إلى الأُلى نزلوا في سفح نعمانا

إلا إذا اعترفنا بأن لليل سلطاناً قاهرًا، وقوة طاغية على ما يحويه ويحيط بأقطاره؛ يجعله سيدًا مُطاعًا، ورئيسًا مُجابًا؛ وفي قصة النابغة مع النعمان بن المنذر، وخوفه منه واعتذاره له وتشبيهه بالليل ما قد يؤكد هذا، وذلك في قوله:

فإنَّكَ كالليلِ الذي هو مُدرِكي* وإنْ خِلتُ أنَّ المنتأى عنكَ واسعُ

وكم لليل من أيادٍ بيضاء، ومِنن لا يُكدرها المنّ. فكم جمع بين متحابين، وألف بين متنازحين. والثنوية الزرادشتية والمانوية يؤلهون الظلمة تأليههم للنور، إلا أنهم يقولون بحِدَث الأول، وقِدم الثاني. وأن الظُلمة (أهرمن) هو إله الشر، والنور (يزدان) إله الخير، وقد رد المعتزلة قديمًا على المانوية بحجج العقول، وأكذبهم المتنبي في دعواهم بحجج الشعر، فقال في قصيدة له يعاتب فيها كافورًا الإخشيدي، ولا شك أنَّ للون كافور صلة مسيسة بانتصار المتنبي للظُّلمة:

وكم لظلامٍ الليلِ عندكَ من يدٍ* تُخبِّرُ أنَّ المانويةَ تكذبُ

وذكر الشهرستاني في «الملل والنحل»، عن أبي حامد الزوزني: “أن المجوس زعمت أن إبليس كان لم يزل في الظلمة والخلاء بمعزل عن سلطان الله، ثم لم يزل يزحف ويقرب بحيله حتى رأى النور، فوثبَ وثَبت؛ فصار في سلطان الله- في النور، وأدخل معه هذه الآفات والشرور؛ فخلق الله سبحانه تعالى هذا العالم شبكةً له؛ فوقع فيها، وصار متعلقًا بها، لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه؛ فهو محبوس في هذا العالم مضطرب في الحبس يرمي بالآفات والمحن والفتن إلى خلق الله، فمن أحياه الله، رماه بالموت، ومن أصَحَّه، رماه بالسقم، ومن سرَّه، رماه بالحزن، فلا يزال كذلك إلى يوم القيامة، وكل يوم ينقص سلطانه حتى لا يبقى له قوة. فإذا كانت القيامة ذهب سلطانه، وخمدت نيرانه، وزالت قوته، واضمحلت قدرته؛ فيطرحه في الجو؛ والجو ظلمة ليس له حد ولا منتهى، ثم يجمع الله سبحانه وتعالى أهل الأديان، فيحاسبهم ويجازيهم على طاعة الشيطان وعصيانه”.

ويذكر الشهرستاني أن أصل ديانة المجوس تدور على قاعدتين اثنتين:

إحداهما: بيان سبب امتزاج النور بالظلمة.

والثانية: بيان سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاج مبدأً، والخلاص معادًا.

لكن المعري يذهب إلى خلاف ذلك؛ فيقول بقدم الظلمة، وحدوث النور، لا باعتبارهما إلهين، بل مخلوقَين، وهذا يتسق مع مذهبه المفرط في التشاؤم بأصالة الشر في العالم، وسوء ظنه بالطبيعة الإنسانية، وذلك في قوله:

والنورُ في حُكمِ الخواطرِ مُحدَثٌ* والأوليُّ هو الزمانُ المظلمُ

والخيرُ بين الناسِ رسمٌ داثرٌ* والشرُّ نهجٌ والبريةُ مَعْلمُ

طبعٌ خُلِقتَ عليهِ ليسَ بزائلٍ*طولَ الحياةِ وآخرٌ مُتعلَّمُ

إن جارت الأمراءُ جاءَ مُؤمرٌ* أعتى وأجورُ يستضيمُ ويكلِمُ

بقي هذا البيت لابن عبد المحسن:

يا نسمهْ داعبي شعرهْ* وردي لي شذى مِنَّهْ

وقولي لهْ عن اخباري* وجيبي لي الخبر عنهْ

أقول: لو أن الشاعر نَكّر (الخبر)، فقال: وجيبي لي (خبر) عنه، لكان أبلغ وأدق في إصابة المعنى. فإن الخبر إذا كان معروفًا فما الحاجة لطلبه، وما الفائدة المرجوة من الاستعلام عنه بعد معرفة كُنْهِه؟! وإنما تمس الحاجة للخبر المجهول؛ وهنا يحسن التنكير. فالعاشق المشتاق يكتفي بأدنى خبر عن معشوقه يطمأن به، وتسكن نفسه إليه. إلا إذا اعتذرنا للشاعر بأن الألف واللام في (الخبر) للعهد الذهني؛ أي ائتني بالخبر الذي سألتك أن تؤديه لي عنه. ومع هذا يظل تنكير الخبر أرجح وأدق وأصوب من تعريفه للأسباب التي تقدمت. والله وحده مَنْ يعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock