رهانات إصلاح المنظومة الصحية بين الأعطاب البنيوية وإنتظارات المواطن

يشهد قطاع الصحة بمختلف جهات المملكة حالة من التوتر المستمر بين الحاجة المجتمعية الملحة لخدمات صحية ذات جودة، وبين واقع مؤسسات ما تزال تعاني من أعطاب هيكلية مزمنة. وقد برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات مقلقة تجلت في ارتفاع حجم التذمر الشعبي، وتنامي الإحساس بإنفصال الخطاب الرسمي عن واقع المؤسسات الإستشفائية، وهو ما دفع بالسلطات العمومية إلى اللجوء إلى تدابير جزئية من قبيل إعفاء أو تغيير بعض المسؤولين. غير أن هذا المسار، وإن كان يعكس إرادة في المحاسبة، يظل محدود الأثر ما لم يواكبه إصلاح عميق يعالج جوهر الخلل.
فالواقع الصحي لا يختزل في مناصب المسؤولية، بل في قدرة المنظومة على ضمان إنتظام حضور الأطر الطبية وشبه الطبية، وتكامل أدوار مختلف الفاعلين، بدءا من أطباء المستشفيات الجامعية إلى أطباء الصحة العمومية، مرورا بجودة الحكامة المحلية، وانتهاءا بمدى إلتزام الجماعات الترابية بدورها في تعزيز العرض الصحي. إن غياب الانسجام بين هذه المكونات، وإستمرار منطق التجزيء بدل التكامل، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج نفس الأعطاب التي تثقل كاهل المواطن البسيط.
إن الإصلاح المنشود ينبغي أن يستند إلى رؤية شمولية توازن بين البنية التحتية المادية، والموارد البشرية، والبعد التدبيري. فالمستشفيات، مهما بلغت كلفة تجهيزها، ستظل عاجزة عن أداء مهامها إذا لم تصاحبها تعبئة حقيقية للأطر الطبية، وتحفيز فعلي على الإستقرار في المناطق النائية، وضمان عدالة مجالية في توزيع الخدمات. كما أن الرهان على الجهوية الصحية المتقدمة يقتضي تفعيلا حقيقيا لصلاحيات المجالس الجهوية في التخطيط والإستثمار، حتى لا يبقى المواطن رهينة قرارات مركزية لا تراعي خصوصيات مجاله الترابي.
إن اللحظة الراهنة تدعونا جميعا، إلى وضع رؤية إستشرافية موحدة، فالصحة ليست مجرد خدمة إجتماعية، بل هي رافعة أساسية لتحقيق السلم الاجتماعي وضمان التنمية الشاملة. وإذا كانت الإصلاحات الجارية في ورش الحماية الإجتماعية تبشر بتحولات نوعية، فإنها قد تتحول إلى مجرد وعود معلقة إذا لم تجد أمامها منظومة صحية متماسكة قادرة على إستيعاب الطلب المتزايد على الخدمات. وعليه، فإن التحدي الحقيقي يكمن في الإنتقال من منطق التدبير بالأزمات إلى منطق التخطيط الإستراتيجي، ومن رد الفعل الظرفي إلى بناء سياسات عمومية مستدامة.
ختاما، يظل مستقبل المنظومة الصحية مرهون بمدى قدرة الدولة على إرساء إصلاح شامل يمزج بين البعد المؤسساتي والقيمي، بين المحاسبة والنجاعة، وبين مركزية الرؤية لا مركزية التدبير. فالصحة في نهاية المطاف، ليست إمتياز تمنحه الدولة، بل حق دستوري وشرط أساسي لتحقيق كرامة الإنسان وصيانة السلم الإجتماعي.
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.