خمسينية المسيرة الخضراء من شرعية التحرير إلى هندسة السيادة وتنزيل مبادرة الحكم الذاتي في ظل التحولات الدولية الراهنة

بعد مرور نصف قرن على ملحمة المسيرة الخضراء المظفرة، يحق للمغرب أن يستحضر هذا الحدث كمنعطف تاريخي أعاد صياغة مفهوم السيادة والوحدة الوطنية في الوعي الجماعي. فالمسيرة الخضراء شكلت نموذج فريد في التاريخ المعاصر لثورة سلمية قادها الإيمان الشعبي بالحق، والتحم فيها العرش بالشعب في لحظة من صفاء الإرادة الوطنية. ومنذ ذلك اليوم السادس نونبر من سنة 1975، أصبحت المسيرة مرجع تأسيسي لفلسفة الدولة المغربية الحديثة في الدفاع عن السيادة بالوسائل المشروعة، وتثبيت الوحدة الترابية بمنطق الشرعية التاريخية والواقعية السياسية. لقد تحولت المسيرة من حدث إلى عقيدة وطنية، ومن رمز للتحرير إلى منظومة متكاملة لتجديد الوعي الوطني وإعادة بناء مشروع الدولة على أسس المشاركة والمسؤولية. واليوم و مع تكريس المجتمع الدولي للمبادرة المغربية للحكم الذاتي تحت السيادة الوطنية، تتجدد دلالات المسيرة في بعدها العملي كأصل تعبوي وقانوني يعزز المسار التنموي والدبلوماسي للمغرب في أقاليمه الجنوبية، ويجعل الإنتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة البناء واقعة إستراتيجية لا رجعة فيها.
إن الهندسة الدبلوماسية المغربية الراهنة تمثل الإمتداد العملي والروحي العميق لفلسفة المسيرة الخضراء، لأنها تترجم مبادئها في الميدان بأسلوب معاصر يزاوج بين الرمزية والفعالية. فكما كانت المسيرة تعبئة سلمية لتحقيق هدف وطني سام، تسير الدبلوماسية المغربية اليوم على النهج ذاته في إدارة الملفات الإستراتيجية بروح الوضوح والإتزان، معتمدة على شبكة تحالفات ذكية وإستثمار سياسي وإقتصادي محكم في دوائر الجنوب الجنوب، وإستباق للتطورات الإقليمية والدولية بلغة المصالح المشتركة. هذه الدبلوماسية التي يقودها جلالة الملك محمد السادس نصره الله برؤية متبصرة، أثبتت قدرتها على تحويل التحديات إلى فرص، وعلى بناء رصيد من المصداقية والإحترام جعل المغرب فاعل موثوق به في منابر الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي، ومؤثر في ملفات الأمن والتنمية والإستقرار الإقليمي. إنها دبلوماسية الحكمة المتوازنة، التي تعيد تعريف القوة الناعمة المغربية ضمن منطق العصر، دون التفريط في ثوابت السيادة والوحدة.
أما الجارة الجزائر، وفي ظل تراجع زخم الدعم الخارجي لخصوم الوحدة الترابية، فهي اليوم أمام لحظة مفصلية تفرض عليها إعادة النظر في تموضعها الإقليمي والدبلوماسي. فإما أن تختار طريق الحكمة والإنفتاح على منطق الحوار الواقعي بما يخدم إستقرار المنطقة ومصالح شعبها، وإما أن تواصل رهاناتها الخاسرة في دعم كيان وهمي فقد شرعيته الدولية وواقعيته الميدانية. إن خيارات الجزائر باتت اليوم محدودة بفعل المتغيرات الداخلية والضغوط الإقتصادية والإجتماعية، فضلا عن التحولات العميقة في النظام الدولي الذي بات يفضل الحلول العملية والإستقرار على المغامرات الإيديولوجية. إن إستمرارها في النهج التصعيدي سيكلفها عزلة دبلوماسية متزايدة وتبعات إقتصادية وأمنية لا يمكن تحملها، في حين أن انتهاج سياسة واقعية قوامها الإحترام المتبادل والتعاون الإقليمي سيكون كفيلا بإعادة التوازن لعلاقاتها الخارجية وإعادة ترميم صورتها الدولية التي تآكلت بفعل خطابها العدائي ومواقفها الجامدة.
وفي سياق التحولات الجارية، يبرز الحديث عن تحيين مبادرة الحكم الذاتي المغربية كفرصة إستراتيجية لإغناء هذا المشروع الإصلاحي المتقدم، وتعزيزه بمضامين عملية تعكس نضج التجربة المغربية في مجال الجهوية المتقدمة. فالمغرب اليوم قادر على تقديم صيغة مطورة للحكم الذاتي تبرز بوضوح الآليات الدستورية والمؤسساتية الضامنة لفصل السلط المحلية، وتعزيز المشاركة الديمقراطية، وضمان كافة الحقوق في إطار السيادة الوطنية الكاملة. كما يمكن أن تشمل النسخة الجديدة من المبادرة خطة زمنية للتنمية المتكاملة، ومؤشرات قياس الأداء، ولجنة للتقييم والمتابعة برعاية الأمم المتحدة، بما يجعل من المبادرة ليست فقط مجرد حل سياسي، بل نموذج تنموي قابل للتطبيق ورافعة لبناء الثقة.
لقد جسد المغرب و من خلال مخطط التنمية بالأقاليم الجنوبية، ترجمة فعلية لروح الحكم الذاتي، إذ أوكل لأبناء الصحراء المغربية إدارة شؤونهم بأنفسهم، وأطلق مشاريع كبرى في البنية التحتية والتعليم، والصحة والتشغيل مما حول مدن العيون والداخلة والسمارة وبوجدور إلى فضاءات حقيقية للنمو والاندماج. كما عزز ذلك بإجراءات مؤسساتية من خلال اللجان الجهوية لحقوق الإنسان التي حظيت بإشادة تقارير أممية ودولية معتبرة، تأكيدا على مصداقية التجربة المغربية وانسجامها مع المعايير الدولية في مجال حقوق الإنسان.
ختاما، إن قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2797 ليس سوى تتويج لمسار طويل من العمل الدبلوماسي الهادئ والفعال، وهو بمثابة إعلان لمرحلة جديدة عنوانها الإنتقال من شرعية الإعتراف إلى شرعية التفعيل، ومن الدفاع عن الصحراء إلى تنميتها وقيادتها نحو المستقبل. ذلك أن المسيرة الخضراء وبعد نصف قرن، لم تعد مجرد ذكرى خالدة بل أصبحت فلسفة دولة ورؤية أمة تصنع التغيير بالعقل والبصيرة، وتبني مجدها الوطني على ثوابت راسخة وروح استبصارية تتجاوز الزمن وتستشرف الأفق فيضل وحدة وطنية من طنجة الى الكويرة.
د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.



