السيادة المفقودة: دعم الاستيراد وقتل الإنتاج

بقلم: البشير أحشموض – فاعل اقتصادي ومهني منتخب
منذ فجر التاريخ، لم تُشنّ الحروب الكبرى من أجل الأفكار فقط، بل لأجل الأرض… والماء.
فالأرض هي مصدر القوت، والماء هو روح السيادة.
واليوم، حين نُهمل الفلاح، ونستورد الحبوب، وننزف الفرشة المائية، ألسنا نعيد، بطريقة أخرى، صياغة نفس الصراع… لكن هذه المرة ضد أنفسنا؟
في زمن تُقاس فيه سيادة الدول بقدرتها على إطعام شعوبها، لا تزال سياساتنا الفلاحية تمضي في اتجاهٍ معاكس.
فبدل أن نُشجّع الإنتاج الوطني ونحمي من يُنتج، نختار، بإصرار، أن نُغذّي الاستيراد، وندعم من لا يزرع ولا يُربّي، بل من يستورد أو يضارب في السوق.
هذا ليس مجرد خطأ تقني في السياسات العمومية، بل هو انحراف استراتيجي يهدّد ما تبقى من السيادة الغذائية، ويفتح الباب أمام التبعية الاقتصادية والاجتماعية.
لقد تابعنا، خلال الأشهر الماضية، كيف وُجّهت مئات الملايين من الدراهم لدعم استيراد الأغنام والأبقار، بحجّة تموين السوق وخفض الأسعار.
لكن الواقع كان صادمًا:
الأسعار لم تنخفض،
المربي المحلي تُرك في مواجهة غير عادلة،
المواطن لم يشعر بأي تحسن في قدرته الشرائية،
بينما وُزعت الإعانات على فئة محددة من المستوردين والوسطاء.
وفي موازاة ذلك، ها هو المكتب الوطني للحبوب والقطاني يواصل منح الدعم لمستوردي القمح اللين، رغم التقلّص التدريجي لقيمته.
لكن المشكلة لا تكمن في حجم الدعم، بل في فلسفته ذاتها:
لماذا نُصرّ على دعم المستورد… ونتجاهل الفلاح؟
لماذا لا تُوجّه هذه الأموال إلى الإنتاج، إلى الأرض، إلى من يزرع ويكافح؟
شهادتي من قلب الأرض
لقد عشتُ هذا الواقع عن قُرب، لا كمتابع فقط، بل كابن فلاح، ومربي سابق، ومستثمر في الإنتاج الحيواني والنباتي لسنوات طويلة…
(تابعت تفاصيل الإنتاج، رأيت التهميش، المخاطر، والتعب الذي لا يُكافأ).
استيراد الحبوب والأغنام… تساؤلات السيادة
في ظرف سنتين فقط، خصصت الدولة أزيد من 13 مليار درهم (حسب مايقال) لدعم استيراد الأغنام والأبقار،
لكن المستفيد لم يكن المواطن، ولا الفلاح، ولا السوق الوطنية.
فهل السيادة تُبنى على الاستيراد؟
وهل دعم الخارج هو طريق حماية الداخل؟
أم أن السياسات اختارت تزويق المدينة على حساب تمكين القرية؟
المفارقة المريرة
أسلافنا، رغم قلة الإمكانيات، صدّروا الحبوب لأوروبا.
وجيلنا، رغم المعاهد والتكنولوجيا، يصدر الخضروات… ويستورد القمح.
النماذج الدولية تقول الكثير
في أوروبا: الفلاح يتلقى الدعم المباشر.
في أمريكا: قرارات الرئيس دونالد ترامب فرضت رسومًا عالية على الواردات، انسحب من بعض الاتفاقيات، ودافع عن المزارع الأمريكي قائلاً:
“لن نسمح بأن يُغرق الآخرون سوقنا بمنتجات رخيصة على حساب عمّالنا ومزارعينا.”
فهل نحن مستعدون لنقول: “المغرب أولاً”؟ دعمًا للفلاح، لا للمستورد؟
من درس يوسف إلى رؤية الحسن الثاني
النص القرآني يُلهمنا: سيدنا يوسف خطّط لمواجهة الجفاف بالإنتاج والتخزين، لا بالاستيراد.
والراحل الحسن الثاني، برؤية استراتيجية، أطلق برنامج “سقي مليون هكتار” وبناء السدود، قائلاً:
“إن الحروب المستقبلية ستكون حول الماء.”
وقد واصل الملك محمد السادس هذه الاستراتيجية في مشاريع السدود والفلاحة المسقية.
لكن اليوم…
نُفرّط في الماء،
نُهمل القرى،
ونزرع وهم الاكتفاء عبر الحدود!
الثقافة المُنتجة تندثر
مدارسنا تخرج وسطاء… لا فلاحين.
شبابنا يبحث عن الوظيفة لا الأرض.
وممثلو الأمة، بدل أن يحاربوا الريع، يطلبون لجانًا لا تصل إلى شيء.
قصة الفتاة التي طلبت 10 دراهم من اللحم…
في عيد الفطر، فتاة صغيرة طلبت من الجزار 10 دراهم من اللحم.
أجابها بأن البيع يبدأ من 20 درهمًا.
انصرفت بصمت.
طلبت أن تُعطى ما تحتاجه على حسابي… لكنها اختفت.
هذا المشهد أقوى من كل الخطب.
اللجان تتكاثر… والنتائج لا تظهر
الأغلبية تطلب اليوم تقصّي الحقائق في ملفات وقّعت عليها.
والمعارضة تطالب بملتمسات، دون بدائل.
الكل يدور في حلقة… دون أن يُمسّ جوهر السياسات.
خاتمة
نحن نحتاج إلى ثورة في منطق الدعم:
من دعم المستورد… إلى دعم المُنتِج،
من دعم الاستيراد… إلى حماية الإنتاج،
من دعم الحاضر المؤقت… إلى بناء السيادة الدائمة.
اللهم إني قد بلّغت.
أنا لا أناقش هنا الأرقام، بل أناقش السياسات.
سياسات تزيّن المدن… وتنسى القرى.
تهتم بالواجهة… وتُهمّش الأصل.
حرر بأكادير، في 10 أبريل 2025
البشير أحشموض