ثقافة وفن

تخرشيش، عندما تتحول الذاكرة المؤلمة إلى فن مسرحي حيّ

في إطار…تحليل مسرحية “تخرشيش”، التي أبدعتها مريم الزعيمي، يكشف عن طفرة نوعية في المشهد المسرحي المغربي عبر استكشاف قضايا ذات حساسية شديدة ضمن إطار فني يتسم بالجرأة والترابط. تعالج المسرحية موضوعات اجتماعية ونفسية عميقة مثل زنا المحارم واغتصاب الأطفال، لتشكل بذلك معالجة غير مسبوقة لهذه القضايا في سياق المسرح المغربي، حيث قلّما يتم التعاطي معها بمثل هذه الصراحة والجِدية. العمل يفتح المجال لمقارنته بتجارب سابقة، منها مسرحية “لونكيط” لمحترف أكادير للفنون سنة 2024، المتميزة بطابعها الأمازيغي الساخر واعتمادها على أسلوب “بوفون”، ما ساهم في تناول شخصيات هامشية من خلال رؤية كوميدية متفردة. تميزت “تخرشيش” بتوحد بين الفن الكلاسيكي والمعاصر عبر معالجة قضايا الهوية والتمييز الاجتماعي بأسلوب ساخر مستوحى من تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما انعكس جليًا في الديكور المسرحي الذي جاء مليئًا بالحياة وغنيًا بالعناصر البصرية، مما عزز من استجابة الجمهور للأحداث الدرامية. هذا النهج الإبداعي كسر قيود الشكل التقليدي للمسرح، مستندًا إلى تنفيذ احترافي في مجال الإخراج والأداء التمثيلي، ما أسهم في رفع مستوى العمل ليصل إلى صدارة التجارب المسرحية الحديثة. على مستوى البناء الدراماتورجي، تدور الأحداث داخل فضاء رمزي يستدعي طبيعة الغابة كإسقاط على وضع الضحايا ممن يعيشون العزلة النفسية والاجتماعية. تتطرق المسرحية إلى العنف الأسري والاستغلال الجنسي من خلال استحضار نموذج الأب المستبد، الذي يجسد رمزية القمع والهيمنة داخل الأسرة. النص الذي صاغه عبد الفتاح عشيق يتميز بتداخل خلاق بين الحوار الدرامي والتعبير الجسدي، ما منح الشخصيات عمقًا إنسانيًا وسلّط الضوء بمهارة على صراعاتها الداخلية من خلال مقاربة تجمع بين الديناميكية والتأثير العاطفي. توازن النصوص بين الأسلوب الواقعي المباشر والرمزية الغنية يعكس معاناة الضحايا بوضوح متناهي من خلال إيماءات بليغة تحمل أبعادًا فنية ورسائل واضحة إلى المتلقي. الرؤية الإخراجية التي قدمتها مريم الزعيمي امتازت بتكامل الأداء الحركي والنص الدرامي مع العناصر الموسيقية، مُشكّلة بذلك عرضًا متعدد الأبعاد يتوافق مع فلسفة “مسرح القسوة”. هذا الأسلوب الإخراجي ركّز على إحداث صدمة وجدانية لدى المشاهد لدفعه نحو مواجهة قسوة الواقع الاجتماعي وظروفه المؤلمة. حركة الجسد في العرض لم تكن مجرد عامل تكميلي للنص، بل أداة أساسية لنقل المشاعر والاضطرابات الداخلية للشخصيات بشكل أصيل دون الاعتماد الكامل على الحوار اللفظي. وفي بعد ثقافي مرموق، نجحت المسرحية في إعادة إحياء عناصر التراث المغربي عبر توظيف الموسيقى الشعبية، ما أضفى للعمل طابعًا ثقافيًا محليًا يعكس جذوره ضمن السياق المجتمعي المغربي. التوازن المتحقق بين الرمزية الفنية والمضمون التراثي ساهم في إبراز الصبغة المحلية للعمل مع تقديم رسالة تتسم بإنسانيتها وشموليتها. أما على المستوى الفلسفي، فقد عالجت المسرحية أثر الذكريات المؤلمة في بناء الهوية الفردية وتأثيرها العميق على السلوك الإنساني. الصراع النفسي والاجتماعي للضحايا مع الماضي والبحث عن التحرر شكّل مركز الثقل في العمل الدرامي، وتم التعبير عنه ببراعة عبر الأداء التمثيلي والجسدي الذي نقل المحنة بمستوى فني بالغ التأثير. استقبال النقاد والجمهور للعمل كان متفاوتًا؛ فمن ناحية، أشاد البعض بالجرأة الفنية للعرض وقدرته على تناول الموضوعات المسكوت عنها، بينما اعتبره آخرون تجاوزًا غير مقبول للخطوط الحمراء الاجتماعية. ومع ذلك، استطاعت المسرحية أن تفتح نقاشات مهمة حول جدوى طرح مثل هذه القضايا في مجتمع محافظ ودورها في تسليط الضوء على الواقع المُعاش ومعاناة الضحايا. “تخرشيش” تمثل إسهامًا نوعيًا في تجديد أدوات التعبير الفني داخل المسرح المغربي وتقديم رؤية تتسم بالواقعية والنضج الفني في مواجهة التحديات.
بقلم:احمد ليديب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
ر

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock