مقالات و آراء

مشروع قانون المالية لسنة 2026 ترسيخ للتنمية المنتجة والعدالة المجالة المتوازنة

يأتي مشروع قانون المالية لسنة 2026 في لحظة دقيقة من المسار التنموي للمغرب، مسار تتقاطع فيه التحولات الإقتصادية والإجتماعية العميقة مع إرادة ملكية صريحة لتأسيس نموذج جديد للدولة التنموية المنتجة والعادلة. فمشروع القانون ليس مجرد وثيقة مالية تقنية تحدد المداخيل والنفقات، بل هو خطوة مجتمعية طموحة تسعى إلى إعادة تعريف أدوار الدولة في الإقتصاد والمجتمع، وتحويل السياسات العمومية إلى رافعة للإستثمار في الإنسان باعتباره الثروة الوطنية الكبرى.

إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2026، جاء إستجابة للتوجيهات الملكية السامية الواردة في خطابي عيد العرش المجيد وإفتتاح السنة التشريعية، وفي توافق تام مع الرؤية الإستراتيجية لجلالة الملك محمد السادس، التي تجعل من العدالة الإجتماعية والمجالية أساس لكل تماسك الوطني، لتجعل من الإستثمار في الرأسمال البشري رهان مركزي للتنمية الشاملة. وعلى الرغم من دقة الظرفية الدولية وتقلباتها، فقد تمكن المغرب من الحفاظ على توازناته الماكرو إقتصادية، إذ يتوقع أن يبلغ معدل النمو 4.8%، مع تحكم ملحوظ في التضخم عند حدود 1.1%، وعجز لا يتجاوز 3.5% من الناتج الداخلي الخام. وهي مؤشرات تعكس صلابة النموذج الإقتصادي الوطني وقدرته على التكيف مع الأزمات.

إن ما يميز مشروع قانون المالية لسنة 2026 أنه يكرس إنتقال المغرب من منطق “إدارة التوازنات” إلى منطق “صناعة المستقبل”. فقد أصبح الهدف اليوم ليس فقط الحفاظ على الإستقرار المالي، بل بناء اقتصاد منتجٍ للثروة، قادر على خلق مزيد من فرص الشغل، وتحقيق العدالة المجالية، ودعم القطاعات المولدة للقيمة المضافة. ومن هذا المنطلق، يضع المشروع المقاولات الصغرى والمتوسطة في قلب السياسة الإقتصادية، بإعتبارها المحرك الأساسي للنسيج الإنتاجي الوطني، وتعزيز ميثاق الإستثمار الجديد، وإطلاق برامج مبتكرة في مجال الطاقات النظيفة والهيدروجين الأخضر، بما يجعل المغرب فاعل صاعد في الإقتصاد العالمي المستدام.
وفي بعده الإجتماعي، فقد شهدت المملكة مبادرة وصفت بالتاريخية وغير المسبوقة، تمثلت في الزيادة الكبيرة في ميزانية قطاعي الصحة والتعليم لتصل إلى 15.3 مليار دولار خلال السنة المقبلة، بارتفاع يفوق 22% مقارنة بالعام الحالي. وهي خطوة تجسد إرادة سياسية واضحة في جعل الإنسان محور التنمية، سياسة تترجم في العمق التوجيهات الملكية الداعية إلى أن يكون الإستثمار في المواطن هو المدخل الحقيقي لبناء مغرب جديد أكثر عدالة وإنصاف.لقد جاء هذا القرار الهام عقب اجتماعات وزارية ترأسها جلالة الملك، ليؤكد أن الإصلاح الإجتماعي لم يعد مجرد شعار، بل أولوية وطنية تدار بأدوات مالية ملموسة. فرفع الميزانية المخصصة لهذين القطاعين الحيويين ،الصحة والتعليم، لا يقاس بحجمه المالي فحسب، بل بدلالته الرمزية والسياسية، إذ يعبر عن إنتقال نوعي في فلسفة التدبير العمومي، من الإنفاق التقليدي إلى الإستثمار الإجتماعي المنتج. فالغاية لم تعد تقتصر على تمويل الخدمات، بل على بناء رأسمال بشري مؤهل، وصحة عمومية قادرة على دعم الإقتصاد الوطني، وتعليم يؤسس لمجتمع المعرفة و الإبتكار.
كما تكتسب هذه الخطوة أهمية خاصة بالنظر إلى السياق الإجتماعي الذي شهد في الآونة الأخيرة بروز تعبيرات إحتجاجية شبابية، خصوصا من جيل رقمي جديد عبر عن تطلعاته في العدالة والكرامة وجودة الحياة. وقد شكلت الزيادة في الميزانية رسالة قوية مفادها أن الدولة تصغي وتستجيب بحكمة ومسؤولية، وأن الإصلاح يتم من داخل المؤسسات وبمنطق الإستباق لا الإنفعال. إنها رسالة ثقة في المستقبل تترجم ذلك التلاحم القائم بين الدولة والمجتمع، وتجسد عمق الإختيار المغربي في معالجة التحديات بالإنصات والتدبير الإستشرافي لا بالمواجهة.

إن هذا التحول المالي والإجتماعي يتكامل مع الورش الملكي لتعميم الحماية الإجتماعية، الذي يهدف إلى ضمان كرامة المواطن عبر دعم مباشر لأكثر من أربعة ملايين أسرة، وتوسيع قاعدة المستفيدين من أنظمة التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل. إنها سياسة جديدة تعيد تعريف العدالة الإجتماعية من زاوية الإنتاجية والتمكين، لا من زاوية الاتكالية أو المعونة الظرفية.
وإذا كان المغرب قد راهن في مرحلة أولى على تعزيز البنية التحتية والمشاريع الكبرى، فإنه اليوم يدخل مرحلة أكثر عمقا، مرحلة بناء الإنسان كمشروعٍ وطني. فالصحة والتعليم لم يعودا قطاعين إجتماعيين في الهامش، بل أصبحا عمودين فقريين للإقتصاد الوطني، وشرطين ضروريين لأي إقلاع تنموي ، إنه توجه ينسجم مع رؤية المملكة وهي تستعد لاحتضان كأس العالم 2030، إذ يراد لهذا الحدث أن يكون فرصة لترسيخ صورة المغرب كنموذج للإصلاح المتوازن بين البنية التحتية والعدالة الإجتماعية لا مجرد حفل رياضي.
من هنا، يمكن القول إن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يؤسس لمرحلة جديدة في مسار الدولة المغربية، مرحلة تجعل من الإستثمار في الإنسان سياسة تنموية لا ظرفية، ومن العدالة الاجتماعية أفق إستراتيجي لا مجرد مطلب شعبي. إنها لحظة فارقة في مسار الإصلاح المغربي، تؤكد أن المملكة إختارت طريق الإصلاح الهادئ والعميق، المبني على الرؤية الملكية الرشيدة، وعلى الحكامة المالية الناجعة، وعلى سياسات إجتماعية منتجة، ومجتمع مؤمن بأن الثروة الحقيقية هي الإنسان ثم الإنسان.

ختاما، قانون المالية لسنة 2026 لا يقدم كمجرد أداة لتدبير الموارد، بل كرؤية لبناء مغرب جديد، متوازن في مجالاته و منفتح على المستقبل، قانون يحول التحديات إلى فرص والإنفاق العمومي إلى استثمار في الإنسان والمجال والكرامة الوطنية.

د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
ر

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock