مقالات و آراء

المدونة الجديدة للأسرة بين جدل المصادر وماهية الوظائف (قراءة سوسيوقانونية )

محمد بنقاسم

شكل كل من الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد يومه 30 يوليوز 2022 ونص الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة، إطارا مرجعيا يؤسس لمنعطف حاسم في مسار إصلاح المنظومة الأسرية بالمجتمع المغربي، وذلك عبر تطوير النظم الحمائية للأسرة وتماسكها والذي يترجم بإطلاق ورش تعديل مدونة الأسرة كخطوة ستزيد من تدعيم مرتكزات إرساء الدولة الاجتماعية وستستجيب لمتطلباتها، لذا يمكن القول أن توفير حماية الأسرة والنهوض بأوضاعها يعد واحدا من بين ابرز مؤشرات نجاح الدولة الاجتماعية، غير أن هذا الورش قد أفرز مؤخرا ردود فعل متباينة الآراء والمواقف تجاه قانون لم يصدر حتى كمقترح أو كمشروع قانون والذي يتطلب غلافا زمنيا حدد له في غضون ستة أشهر، وخلافا لسؤال المضمون، يمكن طرح تساؤل – يوازي ظرفية ورش تعديل مدونة – على النحو التالي : أي مصادر يمكن لمدونة الأسرة أن تستمد منها قواعدها القانونية؟ وما الوظائف المنتظرة من مدونة الأسرة الجديدة؟
من الناحية القانونية، واحتكاما إلى مبدأ تراتبية القوانين، نجد أن الوثيقة الدستورية لسنة 2011 قد نصت صراحة على كون الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع (الفصل 32)، وفي ذلك إحالة مباشر إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة باعتباره مصدرا قانونيا يؤسس لنظام الأسرة. بالمقابل نسجل تبني الدستور لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة الذي يطبع كافة الحقوق والحريات المدنية والسياسية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذا البيئية والتي تشكل في مجملها حقوق الإنسان بأجيالها الثلاث، إضافة إلى مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء كمسعى تبتغي الدولة تحقيقه (الفصل 19)، دون أن نغفل مكانة الطفل داخل الأسرة وما يتطلبه من حقوق خاصة ومراعاة لمصلحته الفضلى (الفقرة 2 و3 من الفصل 32) حيث تشكل والمواثيق والاتفاقيات الدولية التي وقعها المغرب وصادق عليها مصدر هذه كل الحقوق، علما أن هذه والمواثيق الاتفاقيات الدولية – حسب تصدير الدستور المغربي الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من منه – تسمو على الوطنية التشريعات الوطنية.
ومن خلال ما سبق، يمكن القول أن المصادر القانونية الأساسية لمدونة الأسرة الجديدة يتموقع الدستور المغربي 2011 في مقدمتها بوصفه القانون الأسمى للأمة، والذي اعتبر أن دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة (الفقرة 3 من الفصـل 6)، وكذا أحكام الشريعة الإسلامية حيث أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء، إلى جانب، المواثيق والمعاهدات الدولية (على رأسها اتفاقية سيداو واتفاقية حقوق الطفل والبروتوكولات الاختيارية الملحقة بهما) وما تقتضيه من ملائمة مع التشريعات الوطنية، باستثناء ما تم التحفظ عليه من مواد مراعاة لخصوصيات المجتمع المغربي ما لم يتم رفعها لاحقا نظرا للتطور الذي قد يعرفه.
ولكون هذا الورش ذو صبغة مجتمعية، يلاحظ غنى وتعدد على مستوى الفاعلين المعنيين به، إذ حدد نص الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة إسناد المبادرة التشريعية للحكومة بموجب الفصل 78 من الدستور، والقيادة الجماعية والمشتركة من أجل تعديل مدونة الأسرة لتركيبة مؤسساتية مكونة من رئاسة النيابة العامة، ومن المعلوم أن النيابة العامة تعتبر طرفا أصليا في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة (المادة 3 من مدونة الأسرة)، ووزارة العدل التي تناط بها مهام إعداد مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمنظومة العدالة، إضافة إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية كجهاز يمثل السلطة القضائية، بشراكة مع المجلس العلمي الأعلى الساهر على تدبير الشأن الديني بالمملكة، إلى جانب المجلس الوطني لحقوق الإنسان لكونه مؤسسة دستورية وهيئة من هيئات الحكامة التي تتخذ من حقوق الطفل والمرأة مجالا للتدخل وأرضية خصبة للاشتغال، أيضا، السلطة الحكومية المكلفة الأسرة التي تشرف على تنزيل مشروع السياسة العمومية المندمجة لحماية الأسرة والنهوض بأوضاعها، مع تبني كل هذه الجهات لمقاربة تشاركية ترمي إلى تفعيل آليات التشاور العمومي مع فعاليات المجتمع المدني من نسيج جمعوي حقوقي ومهنيين ممارسين وأكاديميين مهتمين بمجال الأسرة.
وأما من الناحية الوظيفية، فلا يمكن الحديث عن مدونة أسرة جديدة ما لم تؤدي ست وظائف أساسية، نذكر، أولا، ضمان ديمومة الأسرة والحفاظ على حقوق أفرادها، حيث أن الأسرة نظام اجتماعي يبحث بدوره عن الاستمرارية بيد أن الوصول إلى معدل يومي يقدر ب 300 حالة طلاق أضحى يعبر عن فشل الأسرة في ضمان استمرارية كيانها العلائقي، كما أن حقوق الزوجين على بعضهما البعض أصبحت من بين الأمور التي تستدعي آليات تطبيقية كفيلة بضمانها وتعزيزها سواء أثناء قيام الأسرة أو بعد انحلال ميثاق الزوجية؛
ثانيا، من المنتظر أن تضع المدونة الجديدة أسس العدالة الأسرية المبنية على سمو المصلحة الفضلى للطفل والمسؤولية المشتركة بين الزوجين في تدبير الحياة الأسرية والتعاون من أجل إنجاحها في إطار علاقة يسودها الثقة والاحترام المتبادل بين الزوجين، وكذا تيسير الولوج إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات الأسرية على اعتبار أن الطلاق يبقى الملاذ الأخير لتسوية المنازعات؛
ثالثا، يتوجب على المدونة الجديدة أن تفتح أمام قضاء الأسرة باب الاجتهاد القضائي في حدود تطبيق مبادئ العدالة والإنصاف على اعتبار أن النصوص القانونية مهما اتسعت أحكامها لا تستطيع أن تغطي كل الجزئيات ولا الفرضيات ولا الحوادث التي تطرأ على الأسرة فتظهر هنا الحاجة الملحة إلى الاجتهاد القضائي كآلية قانونية لمواكبة التحولات البنيوية والوظيفة والتغيرات التي تطرأ على الأسرة؛
رابعا، تشجيع الشباب على البناء الأسري وتربية النشء وتنشئته اجتماعيا، ومساعدتهم في تشكيل معتقداتهم وأسلوب حياتهم، إذ أنه من دون أدنى شك، إن كانت هنالك مدونة متحيزة لصالح إحدى الطرفين ومجحفة في حق الطرف الآخر، فإنها لن تشجع الشباب من كلا الجنسين على تأسيس الأسر، وستؤثر، على المدى البعيد، وبشكل سلبي في مؤشرات سوسيوديمغرافية من قبيل نسب العزوف عن الزواج ومعدل التكاثر الطبيعي ومعدل الخصوبة وكذا هرم الأعمار الذي لن يصير فتيا كما هو اليوم؛
خامسا، يجب على مدونة الأسرة العمل على تصحيح التمثلات الاجتماعية الخاطئة حول الأسرة وما تستلزمه من أدوار وتحمل للمسؤوليات، وذلك عبر مأسسة آلية الإرشاد الأسري التي من شأنها إرشاد وتوجيه المقبلين على الزواج نحو فهم ونهج المسار السليم والكفيل بضمان استقرار الأسرة وتماسكها؛
سادسا، ملء الفراغ التشريعي الحاصل على مستوى معالجة الإشكاليات المطروحة جراء تنازع القوانين والاختصاص القضائي الدولي الخاص بالزواج المختلط، وتبسيط المساطر الإدارية في القنصليات وتحديد قواعد الإحالة خصوصا بعد انحلال ميثاق الزوجية.
ختاما، يمكن القول أن الجهات المخولة لاتخاذ المبادرة التشريعية ستنتبه حتى لا تكون طرفا في الصراع الايديولولجي والذي قد تتحيز على إثره إلى موقف أحادي تنتصر فيه لطرف على حساب طرف آخر والذي لا يمكن أن ينتج عن هذا الموقف سوى زرع قيم الأنانية والسلطوية والصراع في الكيان الأسري، خلافا لذلك، من المتوقع أن تتبنى موقفا يخدم، من جهة، المصلحة العليا للأسرة كوحدة اجتماعية متجانسة من حيث البنية ومتناغمة من حيث الأدوار، ويعزز، من جهة أخرى، قيم التضحية والديمقراطية والحوار الأسري بغية إنجاح ورش تعديل مدونة الأسرة تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس دام له النصر والتأييد بصفته أمير المؤمنين، والضامن لحقوق وحريات المواطنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock