مقالات و آراء

هل فعلا : ولادة الأبناء إعلان عن وفاة الآباء ؟

بقلم الدكتور سدي علي ماءالعينين

عندما كنت اودع ابني قبل اربع سنوات بمطار محمد الخامس متجها لوحده الى الصين وعمره 18 سنة ، حاولت ان اتذكر حالي في تلك السن التي تفتح لك ابواب البلوغ …
عندما كنت في عمر ابني كنت قد حققت حلم والدي بالانتقال إلى جامعة ابن زهر باكادير ،يوم كانت امنيتي ان اتسجل بالمعهد العالي للفن المسرحي بالرباط الذي كان شغفي منذ الطفولة و انا اعتلي منصات حفلات الأعياد الوطنية بالمؤسسات التعليمية لبلدتي ممثلا و مؤلفا…
كان كثير من الاهل و الاصدقاء يعتقدون انني وقعت على كنز حتى اتمكن من ارسال ابني للدراسة بالصين ، وهم لا يعرفون أن مستوى المعيشة و السكن ارخص بالضعف في الصين مقارنة بالمغرب !!!
عندما كان ابني يكتشف الصين ،كنت في سنه اكتشف مدينة أكادير ، و عندما كان ابني يعيش في قلب مدينة” اوهان” المليونية بعمرانها الشاهق، كنت وانا في سنه اكتشف احياء أكادير و دور الصفيح التي كانت تغزو المدينة آنذاك !!!!
بعد هذه المقارنة بيني و بين إبني ، انتقلت الى مقارنة مسار جيلين الى ثلاثة أجيال ،
كيف كنا و كيف هو جيل اليوم ؟
يستطيع شاب عمره اقل من 18 سنة أن يلج مجالات متعددة وبفرص كثيرة تمكنه من ان يكون له حساب بنكي و مداخيل بالملايين ، فيما كان اول حساب بنكي يفتحه جيلنا بعد التوظيف للتوصل بالأجرة الشهرية !؟
هؤلاء صناع المحتوى من أشرطة و اغاني و برامج ، فتحت لجيلهم طاقة الإخفاء وهم يعيشون في عوالم يكون فيها معيار الربح خارقا وفارقا مقارنة مع أجورنا الهزيلة ،
إننا جيل تجاوز الخمسين اليوم ، وكل منا غارق في رواسب البناء ، من كانت وجهته الأولى القطاع الخاص و الأعمال الحرة فقد عاش لسنوات في بحبوحة العيش قبل أن يصبح اليوم يعاني مع الأزمة العالمية و تقلبات السوق فيما تجارة الجيل الجديد لا علاقة لها بتقلبات الدولة و العالم ،بل تشتغل عليها لصناعة المحتوى ،وكلما تعددت الأزمات تعددت معها التغطيات و كثرت المداخيل ،
كانت تركيبتنا معمل وعمال ،ورب معمل و نقابة للحد من استغلاله للعمال …
اليوم كل شيئ يختزل في لمسة زر ، لا مقر ولا عمال و لا نقابة ولا ضريبة ….
ما كنا نبدعه في المؤسسات التعليمية تطوعا و نكتبه بسبورة المؤسسة من ابداعات ، و نتبادله في دفتر الذكريات ،تحولل اليوم الى شبكات التواصل الاجتماعي و منصات التجارة الإلكترونية و حتى تجارة العملة الرقمية ،
ما نحس به من فوارق هو نفسه ما يحس به اللاعبون القدامى الذين كانوا يلعبون ويضحون مع انديتهم لتحقيق الانتصارات ،
اليوم لاعبون في سن العشرين يجنون بجنون ارقاما فلكية تجعل المدخول الشهري للاعب اليوم تقابلها اجور موظفين ساميين مجتمعة بالعشرات ،بل ان مداخيلهم السنوية تفوق ميزانية جهتين الى ثلاث جهات مجتمعة !!!!
وميزانية لاعب تفوق ميزانية المنتخب ايام زمان !!!
مؤكد اليوم انه من بعد أزمة الخليج ، و قبله حل الإتحاد السوفييتي و سقوط جدار برلين ، اصبحت افكارنا بالية إن هي قورنت بالافكار السائدة اليوم ،
كان في يدنا قلم و سيجارة و أحيانا سيجارة ملفوفة لتفتح الدماغ للابداع ،
هذا جيل بيده هاتف ، وفأرة حاسوب لتفتح له عوالم و افكار و لغات ….
ولأن الجيل الجديد هم ابنائنا ،فطبيعي ان نستنزف أجورنا الهزيلة كي نشتري الهواتف و الحواسيب و الشراء من الانترنت ،و الدراسة بالمعاهد الوطنية أو بالخارج ،
ربما ازمتنا كجيل اننا نعتز بمدرسة عمومية تخرجنا منها عندما كانت تبني و تربي و تهذب و تفتح باب الشغل في وظائف الدولة ،
وهذه المدرسة لم تعد تغري هذا الجيل ،لا في مقرراتها ولا في بنيتها و لا مناهجها التربوية ، تركها القادرون ليرتموا في احضان الخواص ،كما يفعل المرضى الذين هجروا المستشفيات العمومية ، ولو وجدوا قضاء غير هذا الموجود لإلتجؤوا إليه !!!!
هذا الجيل بكل ما نسميه تفاهة استطاع ان يعيش عصره و يخلق لنفسه قيمه ، لكننا في هذا العصر اكاد أخشى أن يكون كثيرون من جيلنا عبئا على هذا الوطن ،لاننا لازلنا نعيش على النوستالجيا ، و الأحلام الوردية ، و عجز بعضنا على مواكبة دينامية العصر ،وأجرتنا غير قادرة على مسايرة مجتمع غارق في الكماليات ،
الكتاب الورقي صديق جيلنا تحول إلى ملفات pdf, و مقالاتنا في جرائد كنا نتباهى بها و نتسابق لشراءها في الصباح ، اصبح كل شيئ مجرد لمسة زر مع التيك توك و الفيسبوك و غيرها كثير من تطبيقات لا نعرف عنها الكثير
لأننا بكل بساطة كنا نطالب بمحاربة الأمية في صفوف ابناء جيلنا الذين لم يلجوا معنا المدارس ،
وها نحن اليوم نحتاج لدروس محو الأمية في مجال التكنولوجيا و المعارف الجديدة ، وشبكات التواصل الاجتماعي وعالم الصورة المتحركة …
ما اصعب ان تعيش في عمر تصبح فيه متخلفا ،وأميا، و عاجزا عن مسايرة هذا الجيل الذي يتطور باستمرار ، ويجني الأموال باستمرار ، ويحلق بعيدا عن منظومة تفكيرنا و قيمنا و معتقداتنا ، ويكون كثيرا مما راكمته مجرد ذكريات جميلة تزين بها ذاكرته …
عندما تشاهد واحدا من ضحايا تزمامارت الذي اضاع الوطن زهرة عمره في التنكيل به و تعذيبه و سجنه وعزله عن العالم ، عندما تشاهده في مدرجات قطر يلبس قميص المنتخب الوطني و يشجع وسط الشباب ، ستدرك أن مصيرنا المحتوم ان ننهي ارتباطنا بالماضي القريب ، ونتمسك بالتاريخ ،ولكن ان نعيش الحاضر و نركب مع الراكبين – فيما تبقى من العمر – قطار الحداثة (بمفهومها الحديث) ،
فهل نملك القدرة الذهنية لتحقيق ذلك؟
هنا التحدي ، فهل تعتبرون ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock